المعروف عرفا كالمشروط شرطا
هذه قاعدة من القواعد المندرجة تحت قاعدة " العادة
محكمة" التي هي من إحدى القواعد الخمس الكبرى، وهي من القواعد الهامة التي لا
ينبغي للفقيه الجهل بها، لتعلقها بالعادة التي عاش فيها المجتمع،
وهذه القاعدة ذكرها عدة من العلماء، فقد ذكرها ابن نجيم
في الأشباه والنظائر[1]، و أحمد بن محمد الحنفي الحموي في غمز عيون
البصائر في شرح الأشباه والنظائر، والشيخ أحمد بن الشيخ محمد الزرقا في شرح
القواعد الفقهية، وكثير من العلماء المعاصرين، كالشيخ عبد الوهاب خلاف، والشيخ محمد
حسن عبد الغفار[2].
ووردت
قاعدة أخرى هي نفس المعنى مع هذه القاعدة، وهي " العادة المطردة هل تنزل
منزلة الشرط”،[3] وهاتان
القاعدتان وإن اختلفت عبارتهما، إلا أنهما نفس المعنى.
ومما
ينبغي التحدث عنه قبل أن نتحدث عن الأحكام المتعلقة بها، أن نتحدث عن تعريف هذه
القاعدة، فإن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ولذا أنقل أقوال العلماء في شأن هذه
القاعدة.
أ- معنى القاعدة
ولهذه القاعدة معنيان، المعنى اللغوي والمعنى اللقبي،
المعروف في اللغة : اسم لكل فعل يعرف حسنه بالعقل أو
الشرع، وهو خلاف المنكر[4]
وقال الفيومي[5]
: وأمرت بالعرف أي بالمعروف وهو الخير والرفق والإحسان
ومنه قولهم من كان آمرا بالمعروف فليأمر بالمعروف أي من أمر بالخير فليأمر برفق
وقدر يحتاج إليه واعترف بالشيء أقر به على نفسه.
قلت : فالمعروف في
اللغة يدور حول الشيئ الحسن الذي استحسنه الشرع والعقل، والخير والرفق كذالك مما
استحسنه الشرع والعقل.
والعرف هو : ما تعارف
عليه الناس في عاداتهم ومعاملاتهم[6]
والمشروط اسم مفعول من شرط، وهو من شرط له – بفتح العين –
، أي التزمه، وشرط عليه، أي ألزمه[7]،
قلت : وإنما اشتق الشرط من هذا الفعل، لأن الشرط يجب على الشخص التزامه، وله أن
يلزم غيره إذا اشترطا.
وأما معنى القاعدة، فهو أن العرف السائد بين الناس إذا اتفقوا عليه في شيء ما، فإنه يعتبر في
الشرع كالشرط، [8]،
وأن ما تعارف عليه الناس في معاملاتهم، وإن لم يذكر صريحا هو قائم مقام الشرط في
الالتزامات.[9]
قلت : إن الشارع قد اعتبر العرف امرا مهما في الحكم
الشرعي، ولا يرميه هباء منثورا، بل اعتبره جزأ له شأن عظيم في بناء الحكم، وذالك
أن الشارع الحكيم ألزم المسلمين على الالتزام بما اشترطوا عليه، فقد قال الرسول
صلى الله عليه وسلم : المسلمون على شروطهم،[10]
وإذا كان اعتناء الشارع بالشرط بهذه المهمة، فإن اعتناءه بالعرف يساوي اعتناءه
بالشرط، فإن كان الالتزام بالشرط واجبا، فإن الالتزام بالعرف الذي تعارف عليه
الناس كالالتزم بالشرط، هذا هو معنى هذه القاعدة.
إلا أن السيوطي ذكر القاعدة التي تساوي معنى هذه القاعدة
بصيغة الإستفهام، وأدخلها في ضمن القواعد المختلف فيها، فقال : "العادة المطردة في ناحية هل تنزل عادتهم منزلة
الشرط؟"، للدلالة إلى الخلاف القوي في هذه القاعدة، فإنه أتى بصور مختلفة
لهذه القاعدة.
ب- العرف الذي
تجري فيه هذه القاعدة
هذه
القاعدة وإن كانت تتحدث عن شأن العرف، إلا أنها لا تطبق في جميع العرف، فقد ذكر
السيوطي في الأشباه والنظائر يقول : العرف الذي تحمل عليه الألفاظ إنما هو المقارن
السابق دون المتأخر.[11]
ومعنى
ذالك، أن العرف الذي تنبني عليها الأحكام هو العرف الذي وقع قبل وقوع الحادثة أو
مقارنا لها، أما العرف الذي يقع بعد الحادثة، فلا تنبني عليه أحكام تلك الحادثة،
مثال ذالك، أن من اشترى سيارة، ولم تجر عادة ولا عرف في ذالك البلد إتباع التوابع
كالعجلة الاحتياطية للسيارة، ثم بعد الشراء، تجري عادة أن من اشترى سيارة، له عجلة
احتياطية، فليس للمشتري قبل هذا العرف مطالبة البائع بالعجلة الاحتياطية، لأن هذا
العرف وقع بعد الشراء، فلا يعتبر في بناء الحكم.
ت- ما ثبت به
العرف والعادة
متى
يسمى العرف عرفا؟ ومتى تسمى العادة عادة؟
تنوعت
الأحداث والوقائع في تسميتها عادة إلى :
1- ما ثبت بمرة[12]، بمعنى
أن هذا الشيء يسمى عادة وعرفا بمجرد حدوثه ووقوعه مرة واحدة، مثل سرقة العبد، فإنه
إذا سرق مرة يعد عادة له حتى يكون معيبا بهذه السرقة، وكذا الاستحاضة، تثبت عادة
بوقوعها مرة واحدة. فإذا حاضت في الشهر الأول عشرة أيام، فإن هذه المرأة، تكون
عادتها عشرة أيام، وإن حدثت مرة واحدة.
2- ما يشترط فيه
التكرر، بمعنى أن هذا الشيء لا يسمى عادة ينبني عليها الحكم إلا إذا حدث متكررا،
فإذا حدث مرة واحدة فقط، فلا يكون عادة ينبني عليها الحكم. مثال ذالك في مسألة
القيافة، فإنه لا يكفي فيها وقوعها مرة واحدة. وكذالك الصيد، فإنه لايكفي فيه تعوده
على الصيد بمرة واحدة.
ث- أدلة
القاعدة
فلما
كانت هذه القاعدة مندرجة تحت قاعدة " العادة محكمة"، فإن الأدلة على هذه
القاعدة هي نفس الأدلة على قاعدة " العادة محكمة"، وهي كما يلي :
1- قوله تعالى : ومن
يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله
جهنم وساءت مصيرا ( النساء 115)
قال صاحب القواعد الفقهية نقلا عن صاحب المواهب
السنية: ووجه الاستدلال بالآية، أن السبيل معناه الطريق، فيكون سبيل المؤمنين
طريقتهم التي استحسنوها، وقد أوعد الله بالعقاب من اتبع غير سبيلهم، فدل على أن
اتباع سبيل المؤمنين واجب.[13]
قلت : إن سبيل المؤمنين وطريقتهم التي
استحسنوها هي عرفهم وعادتهم، واتباعها واجب بمجرد كونها عرفا وعادة لهم بإقرار الشرع، فما ثبت بالعرف صار كما ثبت بالشرط في الحكم،
فإذا تعارفوا على شيء فكأنهم اشترطوا عليه،
2- قول ابن مسعود
رضي الله عنه : ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحا
فهو عند الله قبيح.[14]
قلت : إما ما تعارف عليه المسلمون لا يتعارفون
عليه إلا أنهم رأوا أنه حسن، وأن مارآه المسلمون حسنا لا يتركون العمل به، بل
سيستمر عملهم بهذا العمل الحسن، حتى صار هذا العمل الحسن عرفا وعادة لهم، فإذا كان
هذا العرف قد أقره الشرع، فمخالفة هذا العرف يعتبر قبيحا كما أن مخالفة الشيء
المشروط تعتبر قبيحا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المسلمون على شروطهم،[15]فكان ما ثبت بالعرف كما ثبت بالشرط.
ج- صور هذه القاعدة
يدخل تحت هذه القاعدة صور كثيرة، منها :
1-
إذا تعارف أهل البلد
على إتباع السيارة بتوابعها، كالعجلة الاحتياطية، والثوب الخاص لها، ثم اشترى سيارة
ولم يذكرها في العقد، فإن المشتري استحق هذه العجلة الاحتياطية، بناء على العرف
السائد والعادة المطردة.
2-
من استأجر دارا
للسكنى، ولم يذكر الخزانة ولاالثلاجة ولا التلفاز، لكن الناس قد تعارفوا على إجارة
الدار مع تلفازها وثلاجتها وخزانتها، دخلت هذه الثلاة في الإجارة، لأنها بمجرد
العرف صار كالشرط، لكن ينبغي هنا ملاحظة قيمة إجارة الدار.
3-
أن من اشترى ثوبا
مطلقا ولم يشترط الجديد، لكن قد تعارف الناس على أن الثوب إذا أطلق، أرادوا به
الجديد، فإنه استحق الجديد، فإنه بمجرد تعارفهم على الجديد، صار كأنهم اشترطوا
الجديد منه.
4-
لو دفع شخص لآخر ثوبا
ليخيطه، ولم يذكر الأجرة، وقد جرت العادة والعرف على العمل بالأجرة، فإنه استحق
الأجرة عملا بالعادة، فإنه بمجرد تعارفهم على هذه العادة، صار كأنهم اشترطوا على
الأجرة.
5-
لو ركب شخص سيارة ( TAXI) ولم يذكر
هو ولا سائق السيارة الأجرة، وقد جرت العادة والعرف على أن مثل هذه السيارة لا
تُركَب إلا بالأجرة، فإن السائق يستحق الأجرة، لأنه بمجرد تعارف الناس على هذه
العادة، صار كأنهم اشترطوا على الأجرة.
[1] الشيخ زين العَابدين بن
إبراهيم بن نجيم (926-970هـ)،الْأشباه والنظائرعلى مذهب أبي حنيفة النعمان،دار
الكتب العلمية،بيروت،لبنان،الطبعة :1400هـ=1980م
[2]الشيخ محمد حسن عبد الغفار،القواعد الفقهية بين
الأصالة والتوجيه، ج 7 ص 1، دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة
الإسلامية.
[3]الشيخ زين العَابدين بن إبراهيم بن نجيم(926-970هـ)، الْأشباه والنظائرعلى مذهب أبي حنيفة النعمان،دار الكتب العلمية،بيروت،لبنان،الطبعة :1400هـ=1980م،
وانظر أيضا عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي سنة الولادة 0/ سنة الوفاة 911، الأشباه
والنظائر
[4]مجمع اللغة العربية جمهورية مصر العربية، المعجم الوسيط،
ص 617، مكتبة الشروق الدولية 2011
[5]أحمد بن محمد
بن علي الفيومي ثم الحموي، أبو العباس (المتوفى : نحو 770هـ)، المصباح
المنير في غريب الشرح الكبير، مادة " ع ر ف "
[6]مجمع اللغة العربية جمهورية مصر العربية، المعجم الوسيط،
ص616، مكتبة الشروق الدولية 2011
[7]المرجع السابق
[8]الشيخ محمد حسن عبد الغفار،القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه، ج
7 ص 1، دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية.
[9]الدكتور عبد العزيز محمد
عزام، القواعد الفقهية، ص 195، دارالحديث القاهرة
[10]سليمان بن الأشعث أبو
داود، سنن أبي داود، رقم الحديث 3596
[11]الأشباه والنظائر للسيوطي
[12]الفاداني، أبي الفضل محمد
ياسين بن عيسى الفاداني، الفوائد الجنية مع المواهب السنية
شرح الشيخ عبد الله بن سليمان الجرهزي على متن الفرائد البهية
للعلامة السيد أبي بكر بن أبي القاسم الأهدل، ج 1 ص 270- 271، مكتبة دار المحجة
البيضاء.
[13]الدكتور عبد العزيز محمد عزام،
القواعد الفقهية، ص 173
[14]الإمام جلال الدين
السيوطي،الأشباه والنظائر ص 89
[15]الإمام أبي داود سليما بن
الأشعث، سنن أبي داود، رقم الحديث 3596
كامل شامل.. ما شاء الله، بارك الله فيكم
BalasHapus