بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العزة
والكرام، أعز من يشاء ويذل من يشاء، والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيد ولد آدم
يوم القيامة سيدنا ومولانا محمد ابن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم باحسان
إلى يوم الدين. أما بعد
فإن الإنسان مخلوق
بالخصوصيات من بين سائر عباده تعالى، وهو مخلوق مكلف بالعبادة والأمانة لكونه
خليفة[1] في الأرض، قد تكون درجته أعلى
من الملائكة وقد تكون عكسه. و من تلك تكاليف أنه إذا حلف ثم حنث عنه فعليه
الكفارة، ولا يقع ذلك بسائر عباد الله تعالى الأخرى، وهو أيضا حيوان ناطق أي له
عقل وذوق وهو قادر على تغيير حال إلى حال، أو تحويل سبب إلى سبب حتى يحكم عليه غير
حكم الأول إذ أن القاعدة تقول بــــأن " الحكم يدور مع علته وجودا
وعدما"، لذا أنه قد قصد شيئا بما خطر في ذهنه خلافا لما ظهر عنه، وذلك مثل
كونه حالفا ظاهرا لا باطنا، ففي مثل هذه الحالة، هل له حكم الظاهر أم له حكم الباطن؟
أو ككون لفظ الحلف مشترك على معان، لما حنث عن حلفه فهل مقدار حثنه تبنى على
الألفاظ أو أغراض الحالف أو حسب العرف، إذ أن كان الحلف بمقتضى الألفاظ فنتيجته
غير نتيجة الحلف بمقتضى الأغراض، فلكل آثار في الفروع المتولدة منه،
و القاعدة المتخرجة منه هو
" هل الأيمان مبنية على الألفاظ أو الأغراض " . فها هو ذا، المبحث الذي
سنبحثه في هذه المقالة القصيرة بعون الله تعالى، إنشاء الله
تعريف الأيمان
الأيمان جمع يمين لغة من أصل الكلمة أيمن وهو القوة والقسم، والبركة،
واليد اليمنى، والجهة اليمنى. ويقابلها: اليسار، بمعنى: اليد اليسرى، والجهة اليسرى
أما في الشرع : فقد عرفها صاحب غاية المنتهى من الحنابلة بأنها: توكيد حكم بذكر
معظم على وجه مخصوص.[2]
الأدلة
على وجوب تأدية الأيمان
· قوله تعالى " لا يؤاخذكم الله
باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان، فكفارته إطعام عشرة مساكين من
أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أوتحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك
كفارة أيمانكم إذا حلفتم، واحفظوا أيمانكم كذالك يبين الله لكم آياته لعلكم تتقون"[3]
وأيضا قوله تعالى {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ
بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}[4]
· وأما السنة فكثيرة جدا، منه قول صلى الله
عليه وسلم " والله لأغزون قريشا" قال ذلك ثلاث مرات، ثم قال في الثالثة
"إن شاء الله "[5] أو
قول صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي بيده "[6] أو
قوله صلى الله عليه وسلم "لا مقلب القلوب" وغير ذلك الذي يدل على الحلف،
فلهذا أجمع المسلون على أن الحلف مشروعة.
مبحث
الأصول التي تعتبر في الأيمان
الأصول التي تعتبر في بر الأيمان أو حنثها هي أمور التالية: النية،
و العرف و معنى اللفظ الغوي، أو الشرعي، ومنها السبب الباعث على حلف اليمين، وفي كل
ذلك تفصيل في المذاهب[7]
القاعدة
هل الأيمان مبنية على الألفاظ أو على الأغراض ؟
اختلف الفقهاء عن قضية هذه القاعدة، إذ أن النتيجة
المندرجة تحتها اختلف، وهاهي أقوالهم
· الأول. ذهب الحنفية[8] إلى أن الأيمان مبنية على الألفاظ. الأصل في الألفاظ التي يأتي بها الحالف
أن يراعي فيها معنى المفردات في اللغة، وأن يراعي المعنى التركيبي من عموم وخصوص وإطلاق
وتقييد بالوقت أو بغيره من القيود، ومعاني الحروف التي فيها كالواو والفاء وثم وأو.
وإنما يراعى المعنى اللغوي إذا لم يكن كلام الناس بخلافه، فإن كان كلام الناس بخلافه
وجب حمل اللفظ على ما تعارفه الناس[9]،
فيكون حقيقة عرفية.[10]
مثاله :
إذا غضب أحد على أحد، فحلف
بأن لا يأكل رأسا، فأكل رأس الطير أو
رأس السمك، فإنه لا يحنث بذلك، لأن الألفاظ تدل على العرف وهي رأس البهائم، لا رأس
الطير ولا السمك لأنهما لا يؤكل عادة، و رأس البهائم يؤكل. وكذا لو حلف لا يبيعه بعشرة فباعه بأحد عشر أو بتسعة، لم يحنث، مع أن
غرضه الزيادة[11].
دليلهم
:
-
أن رجلا جاء إلى ابن عباس رضي الله عنهما، وقال: إن
صاحبا لنا مات وأوصى ببدنة، أفتجزي عنه البقرة؟ فقال: " ممن صاحبكم؟ فقال من بني
رباح، فقال: " متى اقتنت بنو رباح البقر؟ إنما البقر للأزد، وذهب وهم صاحبكم إلى
الإبل، فهذا الأثر أصل أصيل في حمل الكلام المطلق على ما يريده الناس، ولا شك أن إرادة
الناس تذهب إلى المعنى العرفي"[12]
· الثاني. هو الإمام مالك في مذهبه المشهور: المعتبر هنا هو الأيمان التي
لا مجال للقاضي القضاء فيه بموجبها[13]، وكذلك
النذور: هو النية، أي الحلف مبني على نية الحالف في غير الدعاوى، ففيها تعتبر نية المستحلف،
فإن عدمت فقرينة الحال، فإن عدمت فعرف اللفظ، أي ما قصد الناس من عرف أيمانهم، فإن
عدم فدلالة اللغة.
وأما الأيمان التي للقاضي مجال فيه على الحكم : مثل في الاستفتاء فإن فيه تراعى هذه الضوابط على هذا
الترتيب. وإن كان في مجال القضاء و لم يراع فيها
إلا اللفظ ، فيؤيد ما ادعاه من النية قرينة الحال أو العرف.
·
الثالث. قال الشافعية:
الأيمان مبنية على الحقيقة اللغوية، أي بحسب صيغة اللفظ؛ لأن الحقيقة أحق بالإرادة
والقصد، إلا أن ينوي شيئا فيعمل بنيته. فمن حلف ألا يأكل رؤوسا، فأكل رؤوس حيتان[14] فمن
راعى العرف كالحنفية قال: لا يحنث، ومن راعى دلالة اللغة كالشافعية قال: يحنث. وكذلك
يحنث عندهم من حلف لا يأكل لحما، فأكل شحما، مراعاة لدلالة اللفظ. وقال غيرهم: لايحنث.
· الرابع. رأى الحنابلة: أنه يرجع في الأيمان إلى النية، أي نية الحالف، فإن
نوى ما يحتمله اللفظ انصرفت يمينه إليه، سواء أكان ما نواه موافقا لظاهر اللفظ أم مخالفا
له، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى».
فإن لم ينو شيئا رجع إلى سبب اليمين وما هيجها أو أثارها لدلالته على النية. فإن حلف
لا يأوي مع امرأته في هذه الدار، فإن كان سبب يمينه غيظا من جهة الدار لضرر لحقه منها
أو منة عليه بها، اختصت يمينه بها. وإن كان لغيظ لحقه من المرأة يقضي جفاءها، ولا أثر
للدار فيها، تعلق ذلك بإيوائه معها في كل دار[15] .
الخلاصة و الخاتمة
والخلاصة من هذا الموضوع
أن أراءهم تجمع على رأيين، الأول أن الأيمان مبنية على الألفاظ وهو قول
الحنفية والشفعية، والثاني أن الأيمان مبنية على النية وهو رأي المالكية ولحنابلة،
فالأول. إن أمكن حمل الأيمان على الألفاظ فحمل على الألفاظ، واللفظ
معنيان : المعنى اللغوي والمعنى العرفي، إن خالف المعنى اللغوي عن
المعنى ما تعارفه الناس فالمعنى ما تعارفه الناس مقدم على المعنى اللغوي، لأن غرض
الحالف جاري على ما تعارفه الناس فيتقد بغرضهم، وهو قول الحنفية،
و كذا
الشافعية رأوا إن أمكن حمل الأيمان على الألفاظ فيحمل على ذلك إلّا إذا كان الحالف
قاصدا شيئا غير ما ظهر من لفظه، فيحمل على ما قصده
والثاني. أن الأيمان تبنى على نية
الحالف، فأيما قصد به الحالف فالحلف على ما قصد، إلا في الدواعي، والمعتبر عند المالكية هو نية المستحلف لا الحالف،
وإلا فيرجع إلى حالة الحلف وإلا فيرجع إلى عرف اللفظ وإلا فيرجع إلى ما تعارفه
الناس في أيمانهم وإلا فيرجع إلى دلالة اللغة،
وأما
الحنابلة تبنى كل الأيمان على نية الحالف مطلقا، في الدواعي أو غيره.
وهكذا رأى العلماء قضية هذا الموضوع، فبانتهاء هذه الكلمة ختم
الباحث مبحثه ، فنرجو من الله العفو والعافية، إن سبق في هذا المبحث غلط، فهو من
عند الباحث بعلمه القليل، وبسماحة الدكتور رسلي حسبي المراقبة والإرشاد بهذا البحث
إن وجدتم عبارة غير مطابق للواقع أرجو منكم الإصلاح والتوجيه. وأخيرا أقول.
والحمد
لله رب العالمين
المراجع
1. القرآن
الكريم
2. سنن
أبي داود
3. الصحيح
البخاري
4. الموسوعة
الفقهية الكويتية لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية – الكويت (الطبعة:من 1404 -
1427 هـ - الكويت)
5. الفقه
على المذاهب الأربعة عبد الرحمن بن محمد عوض الجزيري (المتوفى: 1360هـ) { دار
الكتب العلمية، بيروت – لبنان الطبعة: الثانية، 1424 هـ - 2003 م }
6. القواعد
الفقهية لدكتور عبد العزيز محمد عزام {دار الحديث- القاهرة، الطبعة 2005 م} الصفحة
91، و انظر الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي، ج 1 ص 212
7. الفقه
الإسلامي وأدلته للزحيلي { دار الفكر - سوريَّة - دمشق} الجزء 1 الصفحة 212
[1] لقوله تعالى " وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ
لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ
فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ
وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ { البقرة :30 }
[2] انظر الموسوعة الفقهية
الكويتية لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية – الكويت (الطبعة:من 1404 - 1427
هـ - الكويت) ج 7 ص 245
[6] مثل قوله صلى الله عليه
وسلم " ما أخرجه الإمام البخاري رحمه
الله تعالى قال - حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن محمد بن زياد،
سمعت أبا هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي
بيده، لأذودن رجالا عن حوضي، كما تذاد الغريبة من الإبل عن الحوض» في صحيحه
رقم 2367
[7] انظر الفقه على المذاهب
الأربعة عبد الرحمن بن محمد عوض الجزيري (المتوفى: 1360هـ) { دار الكتب العلمية،
بيروت – لبنان الطبعة: الثانية، 1424 هـ - 2003 م } ج 2 ص 82
[8] انظر القواعد الفقهية
لدكتور عبد العزيز محمد عزام {دار الحديث- القاهرة، الطبعة 2005 م} الصفحة 91، و
انظر الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي، ج 1 ص 212
[9] ولذا كان القول المشهور عن
الحنفية، أن الأيمان مبنية على العرف والعادة، لأن غرض الحالف هو المعهود المتعارف
عنده، فيتقيد بغرضه. هذا هو الغالب عندهم. انظر الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي،
الجزء 1 الصفحة 212
[13] أي الأمور التي لا مجال
للقاضي الدخول فيه، بل تركه بينه وبين الله، وهي أمور بين الحالف نفسه وبين الله
وحده، وأما الأمور المتعلقة بالبشر فالقاضي له محل للقضاء عليه.
Tidak ada komentar:
Posting Komentar